الفَتح الإسلامي مفهومه وانطلاقه من الجزيرة العربية أيّام أبي بَكر الصّديق

 

الفتح بمعنى نقيض الاغلاق، والفتح بمعنى الماءِ الجاري على وجه الأَرض، والفتح بمعنى النصر، والفتح بمعنى الحكم بين الخصمين، وفاتحة الشيءِ بمعنى أَوله ومجازاً جاءَ الفتح بمعنى أَول مطر الوسمي وقيل أَول المطر مطلقاً ومن المجاز أَيضاً الفتح بمعنى فتح دار الحرب. كما وردت ((فتح)) في القرآن الكريم في آيات من آيات العهد المكي (يفتح- فتحنا- فتحوا- فتحت- فتح- مفتحة- افتح- الفاتحين- الفتاح- استفتحوا- مفاتح) والعهد المدني ولادت كلمة فتح في أكثر من موضع).


الفتح بمعنى نقيض الاغلاق، والفتح بمعنى الماءِ الجاري على وجه الأَرض، والفتح بمعنى النصر، والفتح بمعنى الحكم بين الخصمين، وفاتحة الشيءِ بمعنى أَوله ومجازاً جاءَ الفتح بمعنى أَول مطر الوسمي وقيل أَول المطر مطلقاً ومن المجاز أَيضاً الفتح بمعنى فتح دار الحرب.

كما وردت ((فتح)) في القرآن الكريم في آيات من آيات العهد المكي (يفتح- فتحنا- فتحوا- فتحت- فتح- مفتحة- افتح- الفاتحين- الفتاح- استفتحوا- مفاتح) والعهد المدني ولادت كلمة فتح في أكثر من موضع).

 

د.محمد ضيف الله بطاينة

 تعتبر حركة الفتح للدعوة الإسلامية حركة نمو أصلية في حياة هذه الدعوة وتبدو هذه الأصالة من حيث اعتبارها مؤشراً يدل على وضع الدعوة إيجابياً أو سلبياً زيادة أو نقصاناً ولذلك لا يمكن الفصل والتفريق بين الدعوة والفتح واعتبارهما شيئين مختلفين لا رابط بينهما إلا إذا جعلنا نمو الجسم شيئاً لا صلة له بالجسم مطلقاً وإذا فقد الكائن القدرة على النمو فإن ذلك يعني النهاية لهذا الكائن وهو الحال نفسه بالنسبة للدعوة الإِسلامية وأية دعوة أُخرى إذا فقدت خاصية النمو عندها أصبحت في حالة احتضار.

 

بدأَت حركة الفتح في حياة الدعوة الإِسلامية منذ أَن قامت الدولة الإِسلامية على أَرض المدينة المنورة وقد كان اهتمام المؤرخين الأَسلاف بتسجيل أَحداث الفتح اهتمامهم بالدعوة نفسها وإِن من يطالع كتاب ((تاريخ الرسل والملوك)) لأَبي جعفر محمد بن جرير الطبري على سبيل المثال ليلمس هذه الظاهرة بيسر ووضوح، بل نجد مؤرخين آخرين أَفردوا مؤلفات خاصة لحركة الفتح مثل كتاب ((فتوح البلدان)) للبلاذري وكتاب ((فتوح مصر)) لابن عبدالحكم وما ذلك إِلا لأَهمية حركة الفتح وصلة الفتح بالدعوة الإِسلامية ذاتها وإذا جاوزنا ميدان التاريخ نجد كثيراً من الآيات القرآنية والأَحاديث النبوية تتحدث عن الفتح والقتال كما صنف الفقهاءُ أَبواباً له وخصوه بالتفصيل والبيان وأَفردوا له الأحكام كما في كتاب ((الأُم)) لمحمد ابن إِدريس الشافعي وكتاب ((الأَحكام السلطانية)) للماوردي وكتاب ((الأَموال)) لأَبي عبيد القاسم ابن سلام و((السير الكبير)) لمحمد ابن الحسن الشيباني وغيرها كثير. وتعرض لحركة الفتح في العصر الحديث كتاب مختلفون في الأَهواء والميول والمشارب والمذاهب ينتمون إلى ثقافات وجنسيات متعددة فغشي موضوع الفتح ما غشيه من الأَقوال والآراء كانت في غالبها نبتاً غريباً ويأْتي هذا البحث ليتناول حركة الفتح أَيام أَبي بكر الصديق في انطلاقتها خارج الجزيرة العربية إِلى البلدان المجاورة وقد اقتضى ذلك تناول الجوانب التالية:

1-  مفهوم الفتح.

2- صاحب المبادأَة في مد حركة الفتح خارج الجزيرة.

3-    أَسباب مد حركة الفتح.

 

والذي جعل الاهتمام بهذه الجوانب دون غيرها من جوانب الفتح إن هذه الجوانب تتعاضد بعضها مع بعض في إِعطاء صورة قريبة لذاتية الفتح ورسم واقع انطلاقه من جزيرة العرب.

 

1 مفهوم الفتح:

جاءت ((فتح)) في اللغة لعدة معان منها:

الفتح بمعنى نقيض الاغلاق، والفتح بمعنى الماءِ الجاري على وجه الأَرض، والفتح بمعنى النصر، والفتح بمعنى الحكم بين الخصمين، وفاتحة الشيءِ بمعنى أَوله ومجازاً جاءَ الفتح بمعنى أَول مطر الوسمي وقيل أَول المطر مطلقاً ومن المجاز أَيضاً الفتح بمعنى فتح دار الحرب.

 

كما وردت ((فتح)) في القرآن الكريم في آيات من آيات العهد المكي والعهد المدني مثل (فتحنا).

 

آيات العهد المكي:

نجد لفظ ((فتحنا)) في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ.

 

وفي قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ.

 

وفي قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ.

 

وفي قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ.

 

وفي قوله تعالى: ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ.

 

ونجد لفظ ((فتحوا)) في قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ.

 

ونجد لفظ ((يفتح)) في قوله تعالى: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ.

 

ونجد لفظ ((فتحت)) في قوله تعالى: ﴿ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا.

 

وفي قوله تعالى: ﴿... حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا.

 

وفي قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ.

 

وورد لفظ ((فتح)) في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا.... لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ.

 

وورد لفظ ((مفتحة)) في قوله تعالى: ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ.

 

وإذا لاحظنا اللفظ حيثما جاء في هذه الآيات السابقة نجده بالمعنى الدال على نقيض الإِغلاق.

 

كما ورد لفظ ((افتح)) و ((الفاتحين)) في قوله تعالى: ﴿... رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ.

 

وورد لفظ ((افتح)) و ((فتحا)) في قوله تعالى: ﴿ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا.

 

وورد لفظ ((يفتح)) و ((الفتاح)) في قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ.

 

وورد لفظ ((الفتح)) في قوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.

 

أما المعنى الذي ورد به اللفظ في هذه الآيات فهو: لحكم بين الخصمين.

 

وورد اللفظ ((استفتحوا)) في قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ.

 

وتعني ((استفتحوا)) استنصروا.

 

وورد لفظ ((مفاتح)) في قوله تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.

 

وفي قوله تعالى: ﴿... وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ.

 

وتأْتي مفاتح في هاتين الآيتين بمعنى خزائن.

 

ويمكن القول بأَن لفظ ((فتح)) وحيثما ورد في آيات العهد المكي لا يتجاوز المعاني الآنفة الذكر وهي كما يظهر من مواقعها في الآيات الواردة فيها معاني تتصل بموضوع العقيدة. أَما إِذا تجاوزنا آيات العهد المكي إلى آيات العهد المدني نجد أَمام لفظ ((فتح)) أُفقاً جديداً لا نعهده في العهد المكي ينسجم مع واقع المرحلة التي بلغتها الدعوة الإِسلامية والذي يتمثل بظهور الإِسلام وانتشاره.

 

آيات العهد المدني:

ورد لفظ ((فتح)) في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ.

 

وفي قوله تعالى: ﴿... فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ.

 

وتعني ((فتح)) في هذه الآيات ((النصر)).

 

كما ورد لفظ ((فتح)) في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا.

 

وتعني فتح في هذه الآية النصر الذي أُوتيه الرسول صلى الله عليه وسلم  على أَعدائه في صلح الحديبية وأَفضى إِلى إِظهار دين الإِسلام.

 

كما ورد لفظ ((فتح)) في قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ... وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا.

 

وفي قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا... فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا.

 

وفي قوله تعالى: ﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.

 

وتعني ((فتح)) في هذه الآيات النصر الذي ارتبط بفتح مكة رأَس دار الشرك والذي طالما انتظره المسلمون وبشروا به وجعل حدًّا فاصلاً وشارة مميزة بين فترتين هما ما قبل الفتح وما بعد الفتح ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا.

 

وورد لفظ ((فتح)) في قوله تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا.

 

ونجد ((فتح)) في هذه الآية تعني فتح مكة ذلك الفتح الذي جاءَ نصراً، وترتب عليه دخول الناس في الإِسلام أفواجاً من أَهل مكة ثم من أَهل الجزيرة وانتقالهم من حال الشرك إِلى حال الإِيمان وما اقتضاه هذا الحال من تحول بلادهم من دار شرك إِلى دار إِسلام. نخلص من هذا أَن ((الفتح)) أَصبح يعني فتح دار الشرك والكفر ودخولها في دائرة الإِسلام وهذا المعنى تؤكده الآيات في العهد المدني وهو عهد انتشار الدعوة الإِسلامية وظهورها على ما سواها من العقائد والأَنظمة في الجزيرة العربية ولم يعد الفتح يقتصر على النصر والغلب الذي يحققه المنتصر على خصمه في ساحة المعركة، بل صار يعني شيئاً أَكبر من ذلك بكثير لقد صار للفتح مفهوم جديد اكتسبه من واقع الدعوة الإِسلامية يقتضي تجاوز الفتح دائرة النصر في ساحة المعركة إِلى دائرة التغيير في حياة الفرد والجماعة والبلد في العقيدة والنظام أَحدهما أَو كلاهما وأَصبح فتح البلد من بلاد الكفر يعني تحول هذا البلد من دار كفر إِلى دار إِسلام تقام فيه أَحكام الله وشريعته.

 

2 صاحب المبادأة:

بدأَ الفتح بمفهومه الجديد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم  إِذ لم تنته حياته عليه السلام حتى كانت الجزيرة العربية دار إِسلام فلما انتقل إِلى الرفيق الأَعلى انتقضت الجزيرة في كثير من أَجزائها وارتدت إِلا أَنها فتحت ثانية بعد وفاة الرسول مباشرة، وأُعيدت إِلى حظيرة الإِسلام في خلافة أَبي بكر رضي الله عنه فهل ظل الفتح بعد ذلك حبيس حدود الجزيرة العربية؟

 

والجواب بالنفي إِذ أَن الفتح تحرك خارج حدود الجزيرة العربية وكان تحركه خارجها مدعاة لعدد من التساؤلات، نقتصر على اثنين منها الأَول: يدور حول صاحب المبادأَة في حركة الفتح والثاني: يدور حول أَسباب حركة الفتح.

 

أَما بالنسبة لصاحب المبادأَة في حركة الفتح فإِن الروايات التاريخية تختلف في ذلك بين رجلين هما أَبو بكر الصديق والمثنى بن حارثة الشيباني وذلك عند الحديث عن حركة الفتح في الميدان الفارسي فيذكر أَبو حنيفة الدينوري في كتاب ((الأَخبار الطوال)). أَنه لما أَفضى الملك إِلى بوران بنت كسرى شاع في أَطراف الأَرضين أَنه لا ملك لأَرض فارس وإِنما يلوذون بباب امرأَة، لذلك تجرأَ رجلان من بكر بن وائل إحداهما المثنى بن حارثة الشيباني والآخر سويد بن قطبة العجلي فأَقبلا حتى نزلا فيمن جمعا بتخوم أَرض العجم يغيران على الدهاقين فيأْخذان ما قدرا عليه، فإِذا طلبا امعنا في البر، فلا يتبعهما أَحد وذلك في خلافة أَبي بكر فكتب المثنى بن حارثة إِلى أَبي بكر يعلمه ضراوته بفارس ويعرفه وهنهم ويسأَله أَن يمده بجيش فلما انتهى كتابهُ إِلى أَبي بكر كتب أَبو بكر إِلى خالد بن الوليد أَن يسير إِلى الحيرة فيحارب فارس.

 

كما يذكر الطبري في ((تاريخ الرسل والملوك)) عن رجل من بكر ابن وائل أَن المثنى بن حارثة الشيباني سار حتى قدم على أَبي بكر فقال: أَمّرني على من قبلي من قومي أُقاتل من يليني من أَهل فارس وأَكفيك ناحيتي. ففعل ذلك فأَقبل المثنى فجمع قومه وأَخذ يغير على أَرض فارس.

 

يعتبر المثنى بن حارثة الشيباني حسب هاتين الروايتين صاحب المبادأَة فهو الذي فاتح أَبا بكر في موضوع حركة الفتح خارج الجزيرة وبث فيه الجرأَة على حرب الفرس.

 

وبالإِضافة إِلى هذا فإِن الروايتين تعطيان حركة الفتح بُعْداً آخر يتمثل بصفتين: أَولهما أَن حركة الفتح جاءَت امتداداً لعمليات الغزو الذي اعتادتِ القبائل العربية أَن تشنه على جيرانها للسلب والنهب وثانيهما أَن حركة الفتح جاءَت فلتة من غير تدبير اندفعت الدولة فيها وراءَ حماس رجل مغامر كالمثنى بن حارثة الشيباني.

 

فما نصيب هاتين الروايتين من الصحة؟

هناك روايات تاريخية أُخرى تدور حول موضوع صاحب المبادأَة وهي:

1-  رواية الشعبي وتذكر أن أبا بكر كتب إلى خالد بن الوليد يقول له: إِن الله فتح عليك فعارق حتى تلقى عياضا. وكتب إِلى عياض: أَن سر حتى تدخل العراق من أَعلاها وعارق حتى تلقى خالدا.

 

2- رواية المغيرة بن عتيبة وتذكر أَن أَبا بكر كتب إِلى خالد ابن الوليد أَن يدخل العراق من أَسفلها. وكتب إِلى عياض أَن يدخل العراق من أَعلاها.

 

3-   رواية صالح بن كيسان وتذكر أَن أَبا بكر كتب إِلى خالد ابن الوليد حين فرغ من أَهل اليمامة أَن يسير إِلى العراق.

 

4-  رواية البراءِ بن عازب ورواية سعيد بن المسيب وهما يوردان متناً واحداً مؤداه: أَن أَبا بكر كتب إِلى خالد بن الوليد حين فرغ من أَهل اليمامة أَن يسير إِلى العراق.

 

وهذه الروايات الخمس تذكر أَن أَبا بكر صاحب المبادأَة في إِعلان الحرب على الإِمبراطورية الفارسية فأَي الروايات أَجدر بالثقة الروايتان أَم الروايات الخمس؟.

 

بالنسبة للروايتين الاثنتين فإِن إِحداهما مجهولة الراوي وأَما الثانية فراويها رجل من بكر بن وائل واسمه غير معروف، غير أَنه من قبيلة المثنى بن حارثة وسياق الروايتين يرجح اعتبارهما من مصدر واحد ولكن ارتباط الراوي والمثنى بن حارثة بعصبية واحدة يجعل الشك يتطرق إِلى هذه الرواية، إِذ أَنه ليس أَعظم فخراً ولا أَعلى شأْناً ولا أَرفع شرفاً من أَن ينسب إِعلان حرب مظفرة على الأَسد الفارسي إِلى بني بكر بن وائل آل المثنى بن حارثة أَما بالنسبة للروايات الخمس فرواتها هم:

1-   الشعبي وهو عامر الشعبي قاضي الكوفة في خلافة عمر بن عبدالعزيز كان تابعياً وفقيهاً عالماً فاضلاً ثقة يضرب المثل بحفظه.

 

2- صالح بن كيسان وهو مولى أَبي قتادة الأَنصاري تابعي وأَحد فقهاء المدينة الذين جمعوا بين الحديث والفقه، وكان مؤدب أَبناء عمر بن عبدالعزيز.

 

3-  المغيرة بن عتيبة كان فقيهاً وعمل قاضياً لأَهل الكوفة.

 

4-  سعيد بن المسيب القرشي كان أَبوه وجده صحابيين وسعيد إِمام التابعين وفقيه الفقهاء، وأَعلم أَهل عصره بحلال الله وحرامه ويقول ابن حنبل فيه: ثقة من أَهل الخير.

((وكان أَحد فقهاء المدينة المشهورين، وكان لا يأْخذ عطاءً، يعيش من التجارة)).

 

5-                         البراءُ بن عازب الأَنصاري صحابي كان يقف على أَصابع رجليه ليختاره الرسول في الخروج يوم بدر ولكن الرسول رده لصغر سنه وغزا بعدها مع الرسول أَربع عشرة غزوة ونزل الكوفة بعد ذلك ينطلق مع المجاهدين إِلى الجبهة الشرقية في الكوفة.

 

فهذه حال الرواة الذين يقولون: إِنَّ أَبا بكر هو الذي أَعلن الحرب على فارس ووجه خالد بن الوليد إِلى العراق من أَسفلها وعياض بن غنم من أَعلاها.

 

وبالإِضافة إِلى معرفة حال هؤلاءِ الرواة فإِن نزولهم في المدينة والكوفة يعتبر عاملاً ساعدهم في الوقوف على أَخبار حركة الفتح ما بين المدينة والكوفة.

 

أَما من حيث النقد الداخلي لهذه الروايات فإِن مضمون الروايتين اللتين تنسبان المبادأَة إِلى المثنى بن حارثة الشيباني لا يستقيم والمحاكمة الدقيقة، إِذ أَن قضية إِعلان الحرب على الإِمبراطورية الفارسية ليست من الأُمور التي تترك لقضاء رجل كالمثنى أَو يقود إِليها المثنى فهي أَكبر من ذلك بكثير، وتتصل بقدر الوجود الإِسلامي وسلامته وأَن أَمراً مثل إِعلان الحرب على الامبراطوريات قضية كبرى تتصل بالسياسة العليا للدولة ومنها السياسة الخارجية فأَين المثنى بن حارثة من هذا وهو رجل من عامة الناس ومنزله في أَقصى الشرق من شبه الجزيرة، وعندما انشأَ عمر الديوان ورتب الرواتب جعله في الروادف وفرض له خمسمائة درهم فقط كعطاءٍ له.

 

وبالإِضافة إِلى ذلك فإن الطبري يذكر أَن أَبا بكر بعث العلاءَ ابن الحضرمي إِلى قتال أَهل الردة بالبحرين بعد فراغ خالد بن الوليد من اليمامة، وأَن العلاءَ قاتل في هذا الوجه الحطم بن ضبيعة أَحد بني ثعلبة ومن اتبع الحطم من الذين ارتدوا من بكر بن وائل وأَن العلاءَ قد كتب إِلى من ثبت على إِسلامه من بكر بن وائل وإِلى نفر منهم المثنى بن حارثة الشيباني ليقوموا للمرتدين ويأْخذوا عليهم الطريق ولم يزل حال العلاءِ ومن معه على محاولة المرتدين حتى استقام له أَمرهم ورجعوا إِلى الإِسلام وضرب الإِسلام في البحرين بجرانه وبذلك نجد أَن حرب المرتدين في البحرين جاءَ تالياً لحرب المرتدين في اليمامة، وأَن الرواية تذكر المثنى في الذين شاركوا في حرب البحرين وعلى هذا يكون اشتراك المثنى في فتح العراق قد جاءَ تالياً لقرار أَبي بكر في توجيه خالد من اليمامة إِلى العراق، وليس باعثاً لاتخاذ القرار، إِذ أَن الزمن الذي مر بعد الفراغ من اليمامة وهو الزمن الذي اتخذ فيه قرار مد الفتح إِلى الدولة الفارسية كان المثنى فيه مشغولاً إِلى جانب العلاءِ في حرب المرتدين واتخذ القرار وانضم المثنى إِلى جيش خالد في وجهه التي وجهه إِليها أَبو بكر وانضم المثنى بمن ثبت من قومه على الإِسلام مع خالد مثلما فعل غيره من الذين ثبتوا على إِسلامهم في تلك المنطقة غير أَن بروز المثنى بن حارثة يعود إِلى شجاعته وجرأَته العسكرية وسرعة استجابته من جهة ومعرفة المثنى وقومه بالمنطقة تلك المعرفة التي اكتسبوها بحكم منازلهم المجاورة للعراق، وهذا ما يفسر تقديم خالد بن الوليد للمثنى في مخرجه إِلى العراق قبله بيومين على وعد اللقاءِ معه ومع الفرق الأُخرى التي سرحها خالد في الحفير.

 

إِن إِعلان الحرب على فارس جزء لا يتجزأُ من السياسة الخارجية للدولة الإِسلامية تلك السياسة التي قام بها تخطيطاً وتنفيذاً رجال الحكم فيها خلال معطيات كثيرة أَهمها: -

1– أن الدعوة الإِسلامية دعوة إِلى الناس كافة لا للعرب فحسب ومما يؤيد صحة ذلك الأَدلة الواردة في الأُصول الفكرية للدعوة تلك الأُصول التي يمثلها القرآن والسنة كما يؤيدها الواقع التاريخي الذي تمثل بتوجيه عدد من الجيوش خارج الجزيرة العربية في حياة الرسول لدعوة الناس إِلى الإِسلام، وحدث بسبب ذلك عدد من الغزوات منها مؤتة وتبوك وايلة وغيرها ولذلك كان مد حركة الفتح خارج الجزيرة العربية القاعدة الأَساسية التي كانت تقوم عليها السياسة الخارجية للدولة الإِسلامية في خلافة أَبي بكر، ويبدو مدى تنبه أَبي بكر لهذه الحقيقة ووعيه لها واخلاصه لحركة الفتح الذي بدأَ في حياة الرسول أَنه أَبى إِلا إِنفاذ جيش أُسامة بن زيد الذي عقد لواءَه رسول الله عليه السلام فلما فقئت الردة عادت عجلة الفتح سيرتها الأَولى وسدت الفجوة التي أحدثتها الردة في مسيرة الفتح الإِسلامي، ولولا هذه الردة لظلت حركة الفتح متواصلة دون انقطاع، لذلك كان مد حركة الفتح في خلافة أَبي بكر استمراراً لحركة الفتح التي بدأَت في حياة الرسول وليست استمراراً لحركة الغزو الذي كان العرب يقومون به ضد جيرانهم بقصد السلب والنهب.

 

2–  كشفت أَحداث الردة عن أَن الخطر الخارجي الذي يتهدد الدعوة الإِسلامية لا يقتصر على الجبهة الرومية فحسب بل يتجاوز ذلك إِلى الجبهة الفارسية ولقد كان التعاون بين المرتدين في البقاع الشرقية من الجزيرة العربية وبين رعايا الدولة الفارسية دليلاً ملموساً على خطر الجبهة الفارسية ذلك الخطر الذي يتهدد الدعوة الإِسلامية ومستقبلها، ومن الممكن أن القائمين على أُمور الدولة الإِسلامية رأَوا أَن حركة سجاع بنت الحارث بن سويد ليست حركة عفوية إِذ لا يعقل أَن تقود سجاع جموعها من بني تغلب وافناءِ ربيعة من إِياد وشيبان والنمر لغزو المسلمين دونما دوافع وغايات مبيتة ضد الإِسلام ومباركة الدولة الفارسية لهذه الحركة وتغفل الدولة هذه الحركة أَو تتغافل عنها وتدعها تمر هكذا كأَن شيئاً لم يحدث.

 

لذلك فإن الأَرجح أَن الأَعمال المحمومة التي كانت تدبر وراءَ حدود الجزيرة العربية مع الفرس هي التي جعلت الدولة الإِسلامية تعلن مَدَّ حركة الفتح إِلى الجبهة الفارسية والرومية معاً وليس كما قيل بأَن حركة الفتح جاءَت فلتة من غير تدبير قاد إِليها المثنى بن حارثة الشيباني..

 

أَما على الجبهة الرومية فيذكر الواقدي في كتاب ((فتوح الشام)): أَنه لما عزم أبو بكر أَن يبعث الجيش إِلى الشام لقتال الروم جمع أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  في المسجد وقام فيهم خطيباً ومما قاله: ((... واعلموا أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان عول أَن يصرف همته إِلى الشام فقبضه الله إِليه واختار له ما لديه، إِلا وإِني عازم أَن أَوجه أَبطال المسلمين إِلى الشام بأَهليهم فما قولهم في ذلك؟ فقالوا: يا خليفة رسول الله مرنا بأَمرك ووجهنا حيث شئت فإن الله تعالى فرض علينا طاعتك)).

 

أَما بالنسبة لإِعلان مد حركة الفتح على الجبهة الفارسية فإِنه بالإِضافة إِلى الروايات الآنفة الذكر التي تذكر أَن أَبا بكر صاحب المبادأَة في حركة الفتح فإِن اليعقوبي يذكر في تاريخه أَن أَبا بكر أَمر خالداً أَن يسير إِلى أَرض العراق فسار ومعه المثنى بن حارثة. كما يذكر ابن الأَثير في كتاب ((الكامل في التاريخ)): ((أَنه في هذه السنة (سنة اثنتي عشرة) في المحرم منها أَرسل أَبو بكر إِلى خالد بن الوليد وهو باليمامة يأَمره بالمسير إِلى العراق)).

 

نخلص من ذلك إِلى القول بأَن الدولة الإِسلامية لم تفقد بعد وفاة الرسول في خلافة أَبي بكر، وإِنما تعدت مرحلة التحدي بنجاح باهر محتفظة بحيويتها وتمام وعيها على طبيعة المهمة التي ورثتها عن الرسول ولم تكن أُمورها فلتة، وكانت تتمتع بسياسة واضحة تسير على هداها وتسترشد بها فتقبل على ما يخدم هذه السياسة بحق، أَلم تر إِلى أَبي بكر لما جاءَه جرير بن عبدالله البجلي يطلب منه أَن يأْذن له بجمع من كان من بجيلةَ ليحارب بهم وكانوا أَوزاعاً في العرب كيف أَجاب جريراً وقال له: أَعلى حالنا! ترى شغلنا وما نحن فيه بغوث المسلمين ممن بازائهم من الأَسدين فارس والروم، ثم أَنت تكلفني التشاغل بما لا يغني عما هو رضى لله والرسول؟! دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى انظر ما يحكم الله في هذين الوجهين ثم انظر إِلى أَبي بكر عندما اتخذ قرار مد حركة الفتح إِلى العراق كيف أَمر خالد بن الوليد أَن يأْتي العراق من جنوبها وأَمر عياض بن غنم أَن يأْتيها من شمالها وأَن يلتقي الإِثنان بالحيرة، فيكون العراق بين فكي كماشة حتى إِذا صار لهما ذلك أَمرهما بتوجيه الضربة إِلى ((المدائن)) قلب فارس باعتبارها دار الفرس ومستقر عزهم. فإِذا سقطت العاصمة استسلمت الامبراطورية.

وردت (فتح) في القرآن الكريم في آيات من آيات العهد المكي (يفتح- فتحنا- فتحوا- فتحت- فتح- مفتحة- افتح- الفاتحين- الفتاح- استفتحوا- مفاتح) والعهد المدني