انتشار البدع و خطره على التمسك بالسنة النبويّة

 

البدعة هي خلاف السنة، فما خالف النصوص فهو بدعة، باتفاق المسلمين السنة جاءت بذم البدع فكلما شاعت البدع، انزوت السنن، حتى تموت السنن، و تفشوا البدع

البدعة هي خلاف السنة، فما خالف النصوص فهو بدعة، باتفاق المسلمين السنة جاءت بذم البدع فكلما شاعت البدع، انزوت السنن، حتى تموت السنن، و تفشوا البدع

 

 

 

مما لا ريب فيه أنَّ من آثار شيوع البدع بين المسلمين إماتة السنن و تعطيل العمل بها فيما بينهم.

لذلك يذهب كثير من العلماء إلى تعريف البدعة بأنها ما قابل السنة، و يقولون: إن البدعة هي خلاف السنة، فما خالف النصوص فهو بدعة، باتفاق المسلمين [1].

و هذا المذهب يكتسب وجاهة خاصة من علاقة التضاد بين السنة و البدعة، فالفعل الواحد ذاته، لا يمكن أن يكون بدعة و سنة في وقت واحد.

لأن السنة جاءت بذم البدع، و دعت إلى الإعراض عنها، و محاربتها، و التبرئ منها و من أهلها، فلا يمكن أن تقوم بدعة قبالة السنة و؛ لأن القلب لا يتسع إلى الأمر و نقيضه.

فكلما شاعت البدع، انزوت السنن، حتى تموت السنن، و تفشوا البدع [2]، لأنه ما ظهرت بدعة إلا و ماتت سنة من السنن، في مقابلها و ما أشيعت إلا بعد أن تخلى الناس عن السنة الصحيحة، و فسدت نفوسهم، فكانت البدعة كالعلامة الدالة على ترك طريق السنة [3].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (( لا يأتي على الناس زمان الإ أحدثوا فيه بدعة، و أماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع و تموت السنن )) [4].

و كان محمد بن سيرين يقول: ( ما أحدث رجل بدعة فراجع السنة )، و في رواية: ( ما أخذ رجل ببدعة فراجع سنة ) [5].

و قد يكون اعتماد من قرن بين شيوع البدع، و موت السنن على ما روي عن غضيف بن الحارث [6]، قال: بعث إليَّ عبد الملك بن مروان [7] فقال: يا أبا أسماء إنا قد جمعنا الناس على أمرين، قال: و ما هما؟ قال رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، و القصص بعد الصبح و العصر، فقال: أما إنهما مثل بدعتكم عندي، و لست مجيبك إلى شيء منهما، قال: لم؟ قال: لأن النبي r قال: (( ما أحدث قوم بدعة، إلا رفع مثلها من السنة )) [8]. فتمسك بسنة خير من إحداث سنة.

و هذا الحديث لا يسلم من طعن، فلا حجة فيه، على أن المعنى المراد منه صحيح تشهد له عمومات الأدلة الشرعية.

و قال حسان بن عطية[9]: (( ما ابتدع قوم في دينهم بدعة إلا نزع الله مثلها من السنة ثم لا يردها عليهم إلى يوم القيامة ))[10].

و إذا أريد للسنة أن تحيا فلا بد في المقابل من إماتة البدعة، فكما أن هجر السنة يحيي البدع، لا ريب أن التمسك بالسنة يميتها.

قال شيخ الإسلام: (( إن هجر ما وردت به السنة، و ملازمة غيره قد يفضي إلى أن يجعل السنة بدعة و المستحب واجباً ))[11]، و كفى بهذا خطراً على الإسلام، و جناية على الشريعة.

و قد حرص سلفنا الكرام على التصدي لكل ما من شأنه أن يفتح الباب أمام إشاعة البدع، و إماتة السنن، و كفى مثالاً على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى الإماء عن لبس الجلباب و التقنع به، و يضرب على ذلك، فقد روي عن أنس رضي الله عنه ، أنه قال: (( رأى عمر أمة لنا مقنعة، فضربها، و قال: لا تشبهن بالحرائر )) [12].

و قال أنس رضي الله عنه أيضاً: (( كن إماء عمر رضي الله عنه يخدمننا كاشفات عن شعورهن، تضطرب ثديُّهن )) [13].

قال الإمام الطرطوشي رحمه الله[14]: فهموا أن مقصود الشرع المحافظة على حدوده، و أن لا يظن الناس أن الحرة و الأمة في الستر سواء، فتموت سنة، و تحيا بدعة. اهـ [15].

فانظر رحمك الله إلى ورع القوم و قد أخذوا الإسلام غضاً طرياً، كيف كانوا يخافون على السنة و يخشون عليها من الزيادة و اللبس، و قف حيث وقفوا فإنك في زمن عزَّت فيه السنن.



[1] انظر: السنة و البدعة، للحضرمي، ص: 104.

[2] انظر: مجموع الفتاوى: 20 / 163.

[3] البدعة و المصالح المرسلة، لتوفيق الواعي، ص: 210.

[4] أخرجه الطبراني في " الكبير " 10 / 319، و ابن وضاح في " البدع " ص 25 – 26، و ابن بطة في
" الإبانة " 1 / 176 ( 10 )، و اللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " ( 124 و 125 ) من طرق عن عبد المؤمن بن عبيد الله، عن مهدي بن أبي مهدي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه به. و في بعض ألفاظه:
( ما من عام إلا و تظهر فيه بدعة، و تموت فيه سنة، حتى تظهر البدع و تموت السنن ).

قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1 / 188: ( رواه الطبراني في الكبير، و رجاله موثقون ).

قلت: رجاله كلهم ثقات، سوى مهدي بن أبي مهدي، و هو: ابن حرب الهجري، روى عنه اثنان، و قال ابن معين: ( لا أعرفه ). و ذكره ابن حبان في " الثقات "، و صحح ابن خزيمة حديثه. كما في " تهذيب التهذيب "10 / 324.

و قال فيه ابن حجر في " التقريب " ( 6928 ): ( مقبول ).

[5] أخرجه الدرامي ( 208 ) في المقدمة، باب كراهية أخذ الرأي، و الهروي في " ذم الكلام " ( 756 )، من طريق أبي إسحاق الفزاري، عن ليث، عن أيوب، عن ابن سيرين به.

و أورده السيوطي في " الأمر بالاتباع " ص 17، و أبو شامة في " الباعث " ص 16.

قلت: و رجاله ثقات سوى ليث، و هو ابن أبي سليم " ضعيف " كما سبق.

[6] غضيف بن الحارث رضي الله عنه ، هو: السكوني الكندي، و يقال الثمالي، أبو أسماء الخمصي، مختلف في صحبته؛ و الراجح ثبوتها، و إنما و قع الخلاف بسبب جمع بعضهم بينه و بين غطيف بن الحارث.

انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 7 / 429، تاريخ أبي زرعة الدمشقي 388، 603، 604، معجم الطبراني الكبير 18 / 264، تهذيب الكمال 23 / 112، سير أعلام النبلاء 3 / 453.

[7] عبد الملك بن مروان، هو: ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية، الخليفة الفقيه، أبو الوليد الأموي، تملك بعد أبيه الشام و مصر، ثم حارب ابن الزبير الخليفة، و قتل أخاه مصعباً في و قعة مسكن، و استولى على العراق و جهز الحجاج لحرب ابن الزبير، فقتل ابن الزبير سنة 72 هـ / 691 م، و استوثقت الممالك له. توفي سنة 86 هـ / 705 م.

انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 5 / 223، تاريخ بغداد 10 / 388، سير أعلام النبلاء 4 / 246، ميزان الاعتدال 2 / 664، البداية و النهاية 8 / 260 و 9 / 61.

[8] إسناده ضعيف:

أخرجه أحمد في " المسند " 4/105، و البزار في " مسنده " ( 1 / 82 – كشف )، و الطبراني في " الكبير " 18 / 99 ( 178 )، و ابن قانع في " معجم الصحابة " 2 / 316 ( 855 )، و ابن بطة في " الإبانة الكبرى " 1 / 176 ( 10 )، و اللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " 1 / 90 ( 121 ) من طرق عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني، عن حبيب بن عبيد، عن غضيف بن الحارث به.

و صحف اسم ( غضيف ) في المعجم الكبير للطبراني، و قد نبه على ذلك ابن حجر في " الإصابة "
5 / 276.

قال ابن حجر في " الفتح " 13/ 253: ( و قد أخرج أحمد بسند جيد، عن غضيف..) فذكره.

قلت: و فيه نظر؛ لما سيأتي.

و نقل المناوي في " فيض القدير " 5 / 412، 471 عن المنذري، قال: ( سنده ضعيف ).

و قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1 / 188: ( رواه أحمد و البزار، و فيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم و هو منكر الحديث ).

قلت: و مدار الحديث عليه، و قال ابن حجر في " التقريب " ( 7974 ): ( ضعيف، و كان قد سرق بيته فاختلط ).

[9] حسان بن عطية، هو: الإمام الحجة أبو بكر المحاربي مولاهم، الدمشقي، أحد العباد، تابعي روى عن أبي أمامة الباهلي، و ثقه أحمد، و ابن معين.

انظر ترجمته في: الجرح و التعديل 3 / 236، حلية الأولياء 6 / 70، سير أعلام النبلاء 5 / 466، تهذيب التهذيب 2 / 251.

[10] أثر حسان صحيح: أخرجه الدارمي ( 99 ) في مقدمة " سننه "، و ابن وضاح في " البدع " ص 44، و ابن بطة في " الإبانة الكبرى " ( 228 )، و أبو نعيم في " الحلية " 6 / 73، و اللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " ( 129 )، و الهروي في " ذم الكلام " ( 913 ) من طرق عن الأوزاعي، عنه.

[11] مجموع الفتاوى 22 / 67.

[12] صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " 2 / 41 عن و كيع، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه به.

قلت: و إسناده صحيح، رجاله ثقات أعلام، رجال الشيخين. =

= و تابع شعبة: معمر عند عبد الرزاق في " المصنف " 3 / 136 ( 5064 )، و له طرق أخرى عند عبد الرزاق و ابن أبي شيبة.

و قال ابن حجر في " الدراية في تخريج أحاديث الهداية " 1 / 224: ( أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح ).

و قال البيهقي: ( الآثار عن عمر بذلك صحيحة ).

و قال ابن المنذر: ( ثبت أن عمر قال لأمة رآها مقنعة: اكشفي رأسك، و لا تشبهي بالحرائر، و ضربها بالدرة ). انظر: إرواء الغليل للألباني 6 / 203.

[13] إسناده جيد:

أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " 2 / 227 من طريق حماد بن سلمة، حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن جده أنس رضي الله عنه به.

و قال البيهقي: ( الآثار عن عمر بذلك صحيحة ).

[14] الطرطوشي، هو: محمد بن الوليد بن خلف، أبو بكر الأندلسي، الفقيه المحدث، عالم الإسكندرية، و طرطوشة: هي آخر مدن المسلمين من شمالي الأندلس، الإمام الزاهد، القدوة الفقيه، شيخ المالكية، دين ورع، صاحب رحلة، توفي بالإسكندرية سنة 520 هـ / 1126 م.

[15] الحوادث و البدع، للطرطوشي، ص: 114.

البدعة هي خلاف السنة، فما خالف النصوص فهو بدعة، باتفاق المسلمين السنة جاءت بذم البدع فكلما شاعت البدع، انزوت السنن، حتى تموت السنن، و تفشوا البدع